اختصاصه بأن أمته وضع الله
عنهم الإِصْرَ الذى كان على الأمم قبلهم وأحلَّ لهم كثيراً مما شدد على من
قبلهم، ولم يجعل عليهم فى الدين من حرج
أخرج الفريابى فى تفسيره عن محمد بن كعب قال: ما بعث الله من نبى ولا أرسل من
رسول أَنزَل عليهم الكتاب إلا أنزل الله عليه هذه الآية:
﴿وَإِن
تُبْدُوا مَا فِى أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ﴾
فكانت الأمم تأبى على أنبيائها ورسلها ويقولون: أنُؤَاخَذُ بِمَا نُحَدِّثُ
بِهِ أَنفُسَنَا وَلَمْ تَعْمَلْهُ جَوَارِحُنَا؟! فيكفرون ويَضِلُّون ..،
فلما نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم اشتد على المسلمين ما اشتد على الأمم
قبلهم، فقالوا: يا رسول الله أنؤاخذ بما نُحدِّث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا؟
قال: "نَعَمْ، فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَاطْلُبُوا إِلىَ رَبِّكُمْ"، فنزل
قوله تعالى:﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْه ...﴾
الآية، فوضع الله عنهم حديث النفس إلا ما عملت الجوارح، لها ما كسبت من خير
وعليها ما اكتسبت من شر، وأخرج ابن ماجه عن أبى ذَرِّ رضى الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِى عَنْ أُمَّتِى
الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) وأخرج البيهقى عن ابن
مسعود أنه ذكر عند النبى صلى الله عليه وسلم بنو إسرائيل وما فَضَّلَهم الله
به، فقال صلى الله عليه وسلم: (كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَذْنَبَ
أَحَدُهُمْ ذَنْباً أَصْبَحَ وَقَدْ كُتِبَتْ كَفَّارَتُهُ عَلَى أَسْقُفَةِ
بَابِهِ، وَجُعِلَتْ كَفَّارَةُ ذُنُوبِكُمْ قَوْلاً تَقُولُونَهُ
تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَكُمْ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ
أَعْطَانَا اللهُ آيَةً لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا:
﴿وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ الآية. وقد كانت كفَّارات بنى
إسرائيل غاية فى الشدة؛ فقد أخرج ابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب رضى الله عنه
فى قصة الذين عبدوا العجل قال: (قالوا لموسى ما توبتنا؟ قال: "يقتل بعضكم
بعضاً"، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وأمه ولا يبالى من قَتل).
ولم يكن فى بنى إسرائيل حكم الدِّية، إنما هو القصاص أو العفو، وقَبِلَ الله من
أمة المسلمين الدِّية فى العمد؛ تخفيفاً ورحمة، كما أخرج ابن جرير عن قتادة
قال: (كان على أهل التوراة إنما هو القصاص والعفو ليس بينهما، وكان على أهل
الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة القتل والعفو والدية إن
شاءوا، أحلَّها لهم ولم تكن لأمةٍ من قبلهم).
ومما وسَّع الله به على أمة الإسلام: وضعه الرهبانية عنهم، وجعلها فى الجهاد
والصلاة كما ورد عن أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
(لِكُلِّ نَبِىٍّ رَهْبَانِيَّةُ، وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الأُمَّةُ
الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللهِ) أخرجه أحمد، وعنه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهَا
لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا الرَّهْبَانِيَّةُ، وَإِنَّ رَهْبَانِيَّةَ أُمَّتِى
الْجُلُوسُ فِى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَوَاتِ وَالْحَجُّ
وَالْعُمْرَةُ).
ومما خففه الله على المسلمين:حُكمه فى
المرأة الحائض، إذ كانت النصارى يجامعون الحائض وكانت اليهود يعتزلونهن فى كل
شئ، فأمر الله بالقصد بين الأمرين؛ فقال تعالى وكما ورد فى آية:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ﴾
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصْنَعُوا كُلَّ شَيئٍ إِلاَّ النِّكَاحَ)
وذكر وهب بن منبه فى قصة داود النبى عليه السلام وما أوحى الله إليه فى الزبور
كلاماً عن أمة المسلمين منه: (وأعطيتهم سِت خِصالٍ لم أعطها غيرهم من الأمم: لا
أؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركوبه على غير عمد إذا استغفرونى منه غفرته،
وما قدموا لآخرتهم من شئ طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافاً مضاعفة، ولهم عندى
أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب والبلايا إذا صبروا وقالوا
"إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات
النعيم، وإن دعونى استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلاً، وإما أن أصرف عنهم سوءاً،
وإما أن أدخره لهم فى الآخرة).
|