أما فصاحة لسانه
فصاحة لسانه صلى الله عليه وسلم غايةٌ لا يُدرَك
مداها ومنزلة لا يُدانى منتهاها؛ وكيف لا يكون ذلك وقد جعل الله تعالى لسانه
سيفاً من سيوفه يُبين عنه مراده ويدعو إليه عباده؛ فهو ينطق بحكمةٍ عن أمره
ويُبَيِّن عن مراده بحقيقة ذكره .. أُوتِىَ جوامع الكلم وخُصَّ ببدائع الحِكَم
وعَلِم ألسنة العرب؛ يخاطب كل أمة بلسانها ويحاورها بلغتها؛ فكان بحقٍّ أفصح
خلق الله وأعذبهم كلاماً حتى كأن كلامه يأخذ بالقلوب، وقالت السيدة عائشة رضى
الله عنها: (ما كان صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، كان يُحَدِّث حديثاً لو
عدَّه العَادُّ لأحصاه (كناية عن إيجازه) وكان يُعِيد الكلمة ثلاثاً لتُفهَمْ
عنه، وكان يقول: (أوتيت جوامع الكلم) أى أنه امتلك نواصيه جميعا، ويقول أيضا:
(أنا أفصح العرب وإن أهل الجنة يتكلمون بلغة محمد صلى الله عليه وسلم) وقال
الإمام عمر بن الخطاب رضى الله عنه: يا رسول الله مالك أفصحنا ولم تخرج من بين
أظهرنا! قال: (كَانَتْ لُغَةُ إِسْمَاعِيل قَدْ دَرَسَتْ فَجَاءَ جِبْرِيلُ
فَحَفَّظْنِيهَا) رواه أبو نعيم.
وكان صلى الله عليه وسلم يكلِّم كل قبيلة بلسانها
حتى أن علياً رضى الله عنه سأله عن ذلك قال: قلنا يا نبى الله نحن بنو أبٍ واحد
ونشأنا فى بلدٍ واحد، وإنك تُكلِّم العرب بلسان ما نفهم أكثره! فقال: (إِنَّ
اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أدَّبَنِى فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِى، وَنَشَأْتُ فِى بَنِى
سَعْدِ بن بَكْرٍ) وقال الإمام أبو بكر رضى الله عنه: يا رسول الله لقد طُفتُ
فى العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، قال: (أدَّبَنىِ ربىِّ ونَشأتُ فىِ
بَنىِ سَعْدِ).
وقد جمع الناس دواوين من كلامه صلى الله عليه وسلم
المفرد المعجز الموجز البديع الذى لم يُسبَق إليه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه
وسلم: (المرء مع من أحب)، (السعيد من وعظ بغيره)، (إنما الأعمال بالنيات)، (دع
ما يريبك إلى ما لا يريبك)، (نية المؤمن خير من عمله)، (الحرب خدعة)، (الشديد
من غلب نفسه)، (البلاء موكل بالمنطق)، (ترك الشر صدقة)، (لا ينتطح فيها عنزان)
أى لا يجرى فيها خلاف، (سيد القوم خادمهم)، (إن من البيان لسحراً)، (جمال الرجل
فصاحة لسانه)، (زُرْ غِبًّا تَزْدَد حُبًّا)، (التدبير نصف المعيشة والتودد نصف
العقل والهم نصف الهِرَم)، (قلة العيال أحد اليسارين)، (الرضاع يغير الطباع) ..
وآلاف من مثل تلك الحِكَم والعبارات الجارية مجرى الأمثال مما يعسر استقصاؤه
ويدل على رقيه صلى الله عليه وسلم درجة من الفصاحة وجوامع الكلم لا يقاس بها
غيره. ومما عُدَّ من وجوه بلاغته صلى الله عليه وسلم أنه جمع متفرقات الشرائع
وقواعد الإسلام فى أربعة أحاديث هى:
(إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِيَّاتِ) وحديث
(الحَلالُ بَيِّنُ والحَرَامُ بَيِّنُ) وحديث (البَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى
وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرْ) وحديث (لاَ يَكْمُل إِيمَانُ الْمَرْءِ
حَتىَّ يُحِبُّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
وكما قاله ابن الأثير فالحديث الأول يشتمل على
رُبع العبادات، والحديث الثانى: يشتمل على رُبع المعاملات، والحديث الثالث:
يشتمل على رُبع الحكومات وفصل الخصومات، والحديث الرابع: يشتمل على ربع الآداب
والمناصفات ويدخل تحته التحذير من الجنايات.
|